حقيقة النعيم كما فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
النعيم لا يدرك بالنعيم.. حقيقةٌ فهمها ووعاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهاجروا بدينهم، وصبروا على ما نالهم، فالعقبى لهم.
صبروا قليلاً فاستراحوا دائمـاً يا عزة التوفيق للإنسان!
حقيقة النعيم عند أبي هريرة رضي الله عنه
هاهو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ليتفقه في دينه: {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين }^.
يقول أبو هريرة : [[ولقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، والله ما بي من جنون، ووالله ما هو إلا الجوع ]]^ ثمن العليا.. عنا وشقاء.
إن كان يشقى ويلقى دونه تعبا فإنما الراحة الكبرى لمن تعبوا
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري : [[لقد رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة ما منهم رجلٌ عليه رداء .. إما إزارٌ وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته، فإذا كانت الحقائق، كانوا هم الرجال ]].
فمن الطعام بتمرة سودا اجتزوا وبشملة شهبا من الأدراع
ومن يطعم النفس ما تشتهي كمن يطعم النار جزل الحطب
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
حقيقة النعيم عند فضالة بن عبيد
يروي لنا فضالة بن عبيد رضي الله عنه كما ثبت: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرُّ رجالٌ من قامتهم بالصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى صلوات الله عليه، انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجة، يقول فضالة : وأنا يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم }^ ثم يُرى فضالة رضي الله عنه بعد وهو والي مصر ، أشعث حافياً، فيقال له: أنت الأمير وتفعل هذا؟ فقال: {لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء، وأمرنا أن نحتفي أحيانا }^
ما أمةٌ غفلت عن نهجه ومضت إلا تهيم بلا هديٍ ولا علم
هذه حالهم معشر المؤمنين! ولكم أن تسألوا: هل قعدت بهم هممهم؟ هل تنازلوا عن مبادئهم؟ كلا. والله! إنهم لا يعيشون لأنفسهم، إن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحاً، لكنه يعيش حقيراً ويموت حقيراً، أما من تحمل عبء تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فماله وللنوم.. وماله وللراحة .. ماله وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، وقد تهيأ للسباق، ورفعت له أعلام السعادة؟
وليس من أعد للاستفراخ كمن هُيئ للسباق..
خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد
كانوا مع الشدة قد أوقفوا حياتهم لله؛ فاعلين متفاعلين في إخراج الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها، لتكون خير أمة أخرجت للناس:
هزئوا بكل كريهةٍ ندبوا لها لله واستحلوا على الكره العطب
إن تلق واحدهم تجده بمسجدٍ حملاً وكالليث الهصور إذا ركب
حقيقة النعيم عند أبي عبيدة بن الجراح
روى البخاري و مسلم رحمهما الله من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وإلى حيٍ من قبيلة جهينة -كما في بعض الروايات- وزودنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره.
تموين السرية وهم ثلاثمائة جراب تمرٍ فحسب.
كان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
حزمٌ وحسن قيادة وإدارة، إذ لو تركهم وشأنهم لفني زادهم في وقتٍ قليل، ثم تعرضوا للهلاك.
فقيل: كيف تصنعون بتمرة؟ قالوا: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل..
صبٌر عظيمٌ على الجوع إلى حد الاكتفاء بتمرة واحدة يوماً وليلة.
يقول أحدهم: وما تغني تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين فنيت..
ثم فقدوا الأكل كله حتى التمر، فصاروا يعيشون على أوراق الشجر، وأي شجر؟ إنه السمر .. إنه الخبط .. خشن شديد لا يكاد يبلع، قال: فكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله حتى قرحت أفواهنا، فسميت السرية بسرية الخبط، قال: وانطلقنا على ساحل البحر..
لا يجدون تمراً، ولا شجراً .. ولا شيئاً، قد نفد زادهم، واشتد جوعهم، فهل فكروا في العودة إلى المدينة قبل أداء مهمتهم يا معاشر المؤمنين؟
هل تضجروا وسخطوا على قائدهم إذ لم يزودهم سوى جراب تمر؟
كلا والله، إنهم رجالٌ أعدوا إعداداً تربوياً لتحمل الشدائد التي يطيقها البشر ولو بمشقة عظمى، أيقنوا وآمنوا بقول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120-121].
وبينما هم على ساحل البحر إذ رفع لهم كهيئة الكثيب الضخم، قال: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة : ميته؟ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر والقطع كقدر الثور، ثم أخذ منا أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا فمر من تحته.
لا إله إلا الله! هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] هذا رزق الله: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك:21].
قال: وتزودنا من لحمه وشائق، ولم نلق كيداً والحمد لله، ثم قدموا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك رزقٌ أخرجه الله لكم }.
إنها كرامة الله لأوليائه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قلنا: نعم، فأرسلنا إليه منه فأكله صلوات الله وسلامه عليه }.
يا عبد الله! حينما يكون الإيمان قوياً يتضاءل مفعول هموم الدنيا على النفس فتأتي بالعجائب كما سمعت:
من يؤثر الحق يبذل فيه طاقتـه ومن يكن همه أقصى العلا يصل
لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت من الضعف واستعصت على الكسل
هذا مجالك فاركض غيـر متئدِ وإن رأيت المنايا جُوَّلاً فجلِ
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
حقيقة النعيم عند عمرو بن سلمة
وهاهو عمرو بن سلمة كما ثبت في صحيح البخاري يقول: لما كان عام الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم، فبدر أبي قومي بالإسلام، فلما قدم أبي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئتكم من عند رسول الله حقاً، وقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، يقول عمرو : فنظروا، فلم يكن أحدٌ أكثر مني قرآناً لما كنت أتلقى القرآن وأتلقنه من الركبان، فقدموني بين أيديهم بعد أن علموني الركوع والسجود، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين -{إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين }- قال: وكانت عليَّ بردةٌ صغيرة فيها فتق، فكنت إذا سجدت تقلصت عني -اجتمعت وارتفعت لقصرها وضيقها حتى يظهر شيءٌ من عورته- فقالت امرأةٌ من الحي: يا بني سلمة! واروا عنا عورة قاريكم، قال: فاشتروا لي قميصاً عمانياً سابلاً، والله الذي لا إله إلا هو ما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به..
إنه فرحٌ عظيم كما هي عادة الصغار بالفرح بالثوب الجديد، لكنه لا يعدل فرحه بالإسلام، يقول: فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين.
فالعمر لا يقاس بالأعوام والعقل لا يقاس بالأجسام