إن حـساب مـسار العـالم لا يعـني فـهمه!"
رودولف لوتـزه(ت:1881م)
ظَـل نـقدُ:"علم النفس التجريبي/الفيزيائي"- الذي نشأ محاكياً لعلم الطبيعة التجريبي، مُحملا بوهم واحدية المنهج- حاضرا في بيئته الحاضنة له، فقد كانت التساؤلات تمخر عباب هذه النزعة الطبيعية بإجراءات فحص منهجي لنظريات فرويد(ت: 1939م)، وقرين عصره ماركس(ت:1883م)، اللذَين رَدَّا –وغيرهما من الوضعيين-أصل "النفسي" إلى المحسوس المباشر "المادي"،أي "تطبيعُ النفسي" وإغلاق أي دائرة للنفسي فيما وراء الدائرة المنظورة المباشرة؛ والمشكل أن النزعة التجريبية النفسية لا تريد فقط أن تتجاوز "العلم بالنفسي" وإنما تريد تعميم نفسها على "ظاهرية النفس" واختزال العالم الخارجي إلى ما يمكن أن يحتويه وعينا بالمحسوس الغرائزي الذي يحتاج إلى إشباع دائم فحسب؛ الأمر الذي يجعلها توُصَفُ باسم الاختزال الظاهراتي Phenomenological Reduction الذي يستبعد كل ما لا يحيط به الوعي مباشرة، وهي الغلطة الكبرى لعلم النفس الحديث.
لكن الوعي اللاحق بهذا الاختزال الظاهراتي يأخذ بُعدا آخر بعد ذلك: تتوالى رحلة السؤال النقدي لتباشير هذه النزعة التجريبية، وللمذهب الطبيعي بأكمله ليشمل المبادئ، والمناهج، بدلا من النقد السلبي للنتائج، وتبلغ الذُّرى النقدية عند الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل(1859- 1938م) - (انظر مثلا: الفلسفة علماً دقيقاً/مقال مجلة: اللوغوس) - فهو يرى أن التجربة الجوانية النفسية/"الظاهرة النفسية " غير قابلة للتحديد الموضوعي ذو القوانين الفيزيائية. وإنما يجب ردها إلى أُطُر أوسع وأكبر حتى يحصل الفهم الأعمق، ويتم تعديل السلوك باتساق متناغم.
هنا يأخذ النقد الهوسرلي أبعاده التجديدية! فإعادة النقد للعقل النظري والعلمي الحديث الذي أنتج تصورات لِعَالَمِ الوعي والسلوك، يحتم علينا مراجعة "الثورات" الفلسفية الكبرى كي نخطو نحو "نسقية" أكثر "علمية" في الفلسفة لأن : الفلسفة الهيجلية السابقة علينا أثارت هي والتقدم الذي أحرزته العلوم المضبوطة/الدقيقة والطبيعية، ردود فعل اكتسب على إثرها المذهب الطبيعي في القرن الثامن عشر دفعة بالغة القوة، جعلت منه داحضا، ورافضا لكل طابع مثالي، وكل طابع موضوعي مطلق، أي أنها أصبحت ذات نزعة شكية مطلقة!.
هذا الموقف الناقد للنزوع التجريبي النفسي نحو المعرفة الخالصة و المطلقة انقياداً لعالم الأشياء، لا يعني أن الظاهرة النفسية كظاهرة كبرى غير قابلة للفهم العقلي، إنما الأمر هو في هذه التجربة المعيشة ذات الوجود السيال، غير القابلة للتحديد بالحديد المنطقي! فمخاتلاتها تستعصي على القبض النهائي! والأشياء محل التساؤل ما هي إلا ظواهر تُدركُ تدريجيا بالرؤية الحدسية للماهيات، و تُعد تجارب أو خبرات فقط لا ظواهر طبيعية، أو منطقية قبلية Apriori. والواجب علينا هو : دراسـة الـشعور في مجموعهِ من حيثُ هو ظاهرة، لأنه يدخل بحسب أشكاله في الوظائف الممكنة للمعرفة، هذه الدراسة الظاهراتية تعتبر الميدان الحقيقي للنقد العقلي الراقي .
ما يبحثُ عنه، وينطلق إليه هوسرل للفهم، هو الإدراك الظاهراتي للماهيات: "الوعي/وفلسفة النظرة العامة للعالم" الإدراك الذي هو فعل من أفعال الوعي، لأن "الأشياء" هي ما يظهر لوعينا، فيما سُمي بـ: "بالظاهراتية/الفينومينولوجية" والتي تريد فهم حركات الوجود(دازاين) الزمانية والتاريخية، فـَهْماً هو الآخر علمي ودقيق، يتقدم الوعي الإنساني به باستمرارية سُيولِـيَّة. استبصارا بأسس قيام موضوع المعرفة من حيث أصولها في الوعي، واستبصارا ليس بدرجة الوضوح الطبيعي، وإنما بالحدس الماهوي، والمحايثة الشبكية الماهوية للمعارف. فالظواهر مرتبطة بموضوعاتها ارتباطا تلازمياً.
نقد هوسرل للموقف الطبيعي هو نقد للرؤية التي ترد كل "الوجودي" إلى "الفيزيائي"، سيما صور الموقف الطبيعي المتطرفة مثل:" المذهب المادي"؛ وكشف تناقضات المذهب الطبيعي التي تتجلى في سلوك الآخذ به من مثالية وموضوعية في آن معاً هي أكبر دليل على المفارقة ووجود التناقض الجوهري، لأننا إذا ما توقعنا من العلم الطبيعي أن يقوم بحل كل مشكلة فيه بنفسه سوف ندخلُ في حلقة مفرغة لا تنتهي.
هذا النقد الهوسرلي لماهية المعرفة، يصبح في المحصلة النهائية بحثا تأسيسياً في: " علم نفس الماهيات/المعرفية" أحد علوم الماهيات (Eidos الإيدوس) في مقابل علوم الوقائع، المستندة على علوم الماهيات الباحثة في المثل العليا النظرية، والقيمية، والعملية - والتي يرفضها المذهب الطبيعي- لتصبح شرط العلمية الفلسفية الدقيقة.
والفينومينولوجيا تصبح فلسفة البحث عن الماهية الخالصة، التي تفرق بين عدة أنواع من الإدراكات، و الاختزالات، - مثل الاختزال الفرويدي النفسي، والماركسي الاجتماعي-.
هوسرل يرفضُ رد الموضوع واختزاله في قوانين شكلية صورية؛ وعلم النفس- وبالأخص التجريبي- يصبح في البحث الظاهراتي حلقة واحدة وليست وحيدة ليكون الإدراك بحثا واسعاً نحو "علم ماهيات الشعور الخالص"، وتصبح العلاقة بين علم النفس وعلم الشعور/النفسي الماهوي، هي الفارق ما بين الإحصاء الاجتماعي، وعلم الاجتماع الأصيل؛ إنه بحث في الماهية بدلا من الآنية!.
والله أعلى وأعلم.